كان -صل الله عليه وسلم- إذا خلا بنسائه ألين الناس، وأكرم الناس، ضحاكاً بساماً، وكان - صلى الله عليه وسلم- من أفكه الناس. قال المناوي: أي من أمزحهم إذا خلا بنحو أهله.
وعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: حدَّث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة نساءه حديثاً، فقالت امرأة منهن: كأن الحديث حديث خرافة!!
فقال: "أتدرون ما خرافة؟! إن خرافة كان رجلاً من عُذْرَةَ أَسَرَتْهُ الجنُّ في الجاهلية، فمكث فيهم دهراً، ثم ردوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى من الأعاجيب فقال الناس: حديث خرافة"(1).
وكان - صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه وأزواجه كواحدٍ منهم، وكان حسن المعاشرة، وكانت عائشة - رضي الله عنها- تقول: كنت إذا هَوَيْتُ شيئاً تابعني - صلى الله عليه وسلم- عليه. كنت أتعرق العظم وأنا حائض فأعطيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيضع فمه في الموضع الذي فيه وضعته، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه(2)، وكان يتكئ في حجري ويقرأ القرآن(3).
وحدثت عائشة - رضي الله عنها- رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بحديث أم زرع وهو: أن إحدى عشرة امرأة تعاهدت وتعاقدت أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، فوصفت كل واحدة زوجها، فكانت أحسنهن وصفاً لزوجها وأكثرهن تعداداً لنعمه عليها زوجة أبي زرع.
قالت عائشة - رضي الله عنها-: فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "كنت لك كأبي زرع لأم زرع"(4).
وكان - صلى الله عليه وسلم- يسرب إلى عائشة - رضي الله عنها- بنات الأنصار يلعبن معها، وكان - صلى الله عليه وسلم- يريها الحبشة وهم يلعبون في المسجد، وهي متكئة على منكبه. وروي أنه - صلى الله عليه وسلم- سابقها فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها، وقال: "هذه بتلك السبقة"(5).
وعن أنس - رضي الله عنه-: أنهم كانوا يوماً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة - رضي الله عنها-، إذ أُتي بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة، فوضعت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. فقال: "ضعوا أيديكم"، فوضع نبي الله - صلى الله عليه وسلم- يده ووضعنا أيدينا فأكلنا!! وعائشة تصنع طعاماً عجلته، وقد رأت الصحفة التي أُتي بها، فلما فرغت من طعامها جاءت به فوضعته، ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "كلوا باسم الله، غارت أمكم".
ثم أعطى صحفتها أم سلمة، فقال: "طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء"(6).
وهو عند البخاري بلفظ: كان - صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفةٍ فيها طعام، فضربت التي النبي في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع - صلى الله عليه وسلم- فلق الصحفة، ثم جعل يجمع الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: "غارت أمكم"، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة إلى التي كُسِرَت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت(7).
قالت عائشة : لا أزال هائبة لعمر بعدما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صنعت حريرة وعندي سودة بنت زمعة جالسة، فقلت لها: كلي فقالت: لا أشتهي ولا آكل فقلت: لتأكلن أو لألطخن وجهك، فلطخت وجهها. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهو بيني وبينها، فأخذت منها فلطخت وجهي، ورسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يضحك، إذ سمعنا صوتا جاءنا ينادي: يا عبد الله بن عمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : "قوما فاغسلا وجوهكما، فإن عمر داخل" فقال عمر: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم. أأدخل؟ فقال : "ادخل ادخل"(.
والخزيرة: لحم يقطع قطعاً صغاراً، ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذُر عليه الدقيق.
وكان - صلى الله عليه وسلم- إذا أتي بهدية قال: "اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة - رضي الله عنها- إنها كانت تحب خديجة"(9).
وعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: ما غرت على امرأةٍ ما غرت على خديجة -رضي الله عنها- لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها(10)، واستأذنت عليه أختها فارتاح لها(11).
قال القسطلاني: وهكذا كانت أحواله -عليه الصلاة والسلام- مع أزواجه، لا يأخذ عليهن ويعذرهن، وإن أقام عليهن قسطاس عدلٍ أقامه من غير قلق ولا غضب(12).
فقد كان -صلى الله عليه وسلم- حسن العشرة لأهله، جاء في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"(13).
وكان من عادته إذا دخل البيت بادر بالسلام، وإذا سلم ليلاً خافت به حتى تسمعه زوجته إن كانت يقظة، ولا تستيقظ إن كانت نائمة.كما في حديث المقداد قال: فيجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان(14).
وكان ينصف من أزواجه في كل شيء: المأكل، والملبس، والبيت، والنفقة، واللقاء، ويزور بيت كل واحدة منهن بعد صلاة العصر، ويسأل عن حاجاتهن، ويجتمع بهن في بيت برهة بعد صلاة المغرب، ويبيت معهن بالنوبة.
وكان يكرم صواحب أزواجه، ويرضي أقاربهن بحسن سلوكه، وإذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه، فأيهن خرج سهمها ذهب بها معه(15)، ولكل منهن بيت خاص بها، هذه البيوت التي سماها الله حيناً بالحجرات، وحيناً بيوتكن، وحيناً بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كانت متصلة بعضها ببعض، وكانت صغيرة جداً، فحجرة عائشة - رضي الله عنها- التي كانت نافذتها تطل على جناح المسجد النبوي الذي سمى روضة من رياض الجنة، كانت صغيرة حتى لم تسع عشرة رجال حين دخلوها للصلاة على جنازة النبي - صلى الله عليه وسلم-، وكذلك الأثاث الذي كانت تشتمل عليه هذه الحجرات كان قليلاً، ففي حجرة حفصة - رضي الله عنها- كان فراش النبي - صلى الله عليه وسلم- مسحا تثنيه ثنيتين، وفي حجرة عائشة - رضي الله عنها- كان فراشه من أدم حشوه من ليف(16).
ولما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أم سلمة -رضي الله عنها- أعطاها بيت زينب - رضي الله عنها-، وجميع ما وجدته أم سلمة - رضي الله عنها- من الأثاث في هذا البيت هو الرحى وعدة صاع من الشعير.
وأخبر ابن عباس - رضي الله عنه- أن الماء في بيت خالته ميمونة -رضي الله عنها- كان يُوضع في سقاية. وذكر أنس - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كانت له كوب من خشب يشرب فيها صنوف الأشربة، ولما فتح خيبر جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لكل زوجة من أزواجه ثمانين وسقاً من تمر، وعشرين وسقاً من شعير لعام(17)، وأعطى كل واحدة منهن ناقة ذات لبن لتشرب منها، وكانت أزواجه أيضاً يتصدقن على الأرامل واليتامى بما زاد عن حاجتهن.
إعانته - صلى الله عليه وسلم- لهن ومراعاته راحتهن:
كانت أم المؤمنين صفية مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فكانت تركب مع النبي - صلى الله عليه وسلم- جالسة في الخلف وقد غطت جسمها بعباءة، فكانت إذا أرادت أن تركب كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب(18).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم- في سفر، وكانت النسوة في هوادج على الجمال وكان الحادي يحدو حتى تسرع الجمال في سيرها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "ويحك يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير"(19).
صلته الرحم - صلى الله عليه وسلم-:
النبي - صلى الله عليه وسلم- من أقدر الناس على القيام بهذا الواجب، فقد أدى - صلى الله عليه وسلم- جميع الحقوق التي كانت لأقربائه وزيادة، وهذا من سماحته وحبه لهم.
فقد قال - صلى الله عليه وسلم- في أبي العاص بن أمية، وكان مشركاً ظالماً في أول أمره ثم أسلم وحسن إسلامه، قال فيه وهو مشرك: "إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبلها ببلالها"(20).
وحدث أبو الطفيل قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- وأنا غلام إذ أقبلت امرأة حتى دنت منه فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت: من هذه؟ قالوا: أمه التي أرضعته(21).
وكان - صلى الله عليه وسلم- يكرم عمه العباس بعد إسلامه ويعظمه ويجله، ويقول: "أن عم الرجل صنو أبيه"(22).
وكان - صلى الله عليه وسلم- يرفق ببناته ويعطف عليهن، ولما مرض جاءت إليه فاطمة فلما رآها هش للقائها قائلاً: "مرحباً بابنتي!" ثم أجلسها على يمينه أو عن شماله(23). وكان يأتي إلى بيتها لزيارتها.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم- خير الناس لأقربائه وأهل بيته، فهو أوصل الناس لرحمه، وأرفق الناس بهم، وأرحم الناس عليهم، فقد أعطاهم كل ما هو لهم وزيادة، ولا يعرف أن أحداً عامل أقاربه وأهل بيته مثل معاملة الرسول - صلى الله عليه وسلم-.
تقديمه - صلى الله عليه وسلم- الأقربين في المخاوف والمغارم وتأخيرهم في الرخاء والمغانم
كان شعاره الدائم في أهل بيته وعياله، وأقرب الناس إليه تقديمهم في المخاوف والمغارم، وتأخيرهم في الرخاء والمغانم، طلب عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة- وهم كانوا من أبطال العرب المرموقين – من يبارزهم من قريش، وممن فارق دينهم من أهل مكة، وهاجر منها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من أعرف الناس بمكانتهم وبغنائهم في الحرب، وكان في قريش من ينهض لذلك من الأبطال والفرسان، فلم يزد أن قال: "قم يا حمزة! قم يا علي! قم يا عبيدة!" وهم أقرب الناس إليه رحماً ودماً، وأحبهم إليه ولم يؤثر أحداً عليهم، ضناً بحياتهم وإبقاء عليهم، وكان من صنع الله - تعالى- أن كتب لهم الغلبة والانتصار على منافسيهم، ورجع حمزة وعلي سالمين مظفرين، وحمل عبيدة جريحاً.
ولما أراد أن يحرم الربا، ويهدر دم الجاهلية القديمة بدأ بعمه العباس بن عبد المطلب، وابن أخ له من بني هاشم، ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب. فقال في خطبته في حجة الوداع: "وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب، ودماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث"(24).
وأما في الرخاء وعند المغانم، فكان دائماً يؤخرهم ويؤثر عليهم غيرهم – خلافاً للملوك والقادة والزعماء- يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-: إن فاطمة عليها السلام اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن، فبلغها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أتى بسبي، فأتته تسأله خادماً، فلم توافقه، فذكرت لعائشة فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم- فذكرت عائشة له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: "على مكانكما"، حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: "ألا أدلكما على خير مما سألتماني، إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وسبحا ثلاثاً وثلاثين، فإن ذلك خير لكما مما سألتماني"(25).
وفي رواية في هذه القصة أنه - صلى الله عليه وسلم- قال: "والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيع وأنفق عليهم أثمانهم"(26).
هذه هي أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- مع أقاربه، فهل من مقتدي؟ وهل من مستن بسنته؟ نسأل الله بمنه وكرمه أن يرزقنا اتباع سنته، وأن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.